المادة    
هنا مسألة أخرى، وهي فيما يبقى على القاتل من حق إذا سلم نفسه لأولياء الدم، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (واختلفوا فيما إذا تاب القاتل وسلم نفسه) لأولياء المقتول (هل يبقى عليه يوم القيامة للمقتول حق؟) فقال بعض العلماء: ما تريدون أن يفعل أكثر من أنه يذهب ويسلم رقبته لأولياء الدم ويقول: افعلوا ما شئتم؟! قالوا: (لا يبقى عليه شيء؛ لأن حده هو القصاص، والحدود كفارة لأهلها، وقد استوفى ورثة المقتول حق مورثهم وهم قائمون مقامه في ذلك، فكأنه قد استوفاه بنفسه) إذ لا فرق بين أن يستوفي الإنسان حقه بنفسه أو يستوفيه له وليه أو وكيله، فهذا كما لو أن القتيل بنفسه قتله أو عفا عنه أو أخذ الدية، فبذلك ينتهي الأمر، ولا مطالبة بين يدي الله تعالى.
قال رحمه الله تعالى: (يوضح هذا أنه أحد الجنايتين، فإذا استوفيت منه لم يبق عليه شيء، كما لو جنى على طرفه فاستقاد منه فإنه لا يبقى له عليه شيء) كما لو كان قطع يده أو رجله فأخذ بالقود فقطعه.
قال رحمه الله تعالى: (وقالت طائفة من العلماء: المقتول قد ظلم وفاتت عليه نفسه ولم يستدرك ظلامته، والوارث إنما أدرك ثأر نفسه) إذ الحقوق ثلاثة: حق لله لأنه حرم القتل، وحق للمقتول لأنه قتل بغير حق، وحق للورثة لأن قتل مورثهم ووليهم أغاظهم وأحزنهم، فحق الله يسقط بالتوبة، وحق الورثة يسقط بأن يقتصوا منه أو يأخذوا منه الدية أو يعفوا عنه، ويبقى حق المقتول.
قال رحمه الله تعالى: (وحق الوارث قد استوفاه بالقتل، وهو مخير بين ثلاثة أشياء: بين القصاص والعفو مجاناً أو إلى مال، فلو أحله أو أخذ منه مالاً لم يسقط حق المقتول بذلك، فكذلك إذا اقتص منه؛ لأنه أحد الطرف الثلاثة في استيفاء حقه، فكيف يسقط حق المقتول بواحد منها دون الآخرين؟! قالوا: ولو قال القتيل: لا تقتلوه لأطالبه بحقي يوم القيامة، فقتلوه، أكان يسقط حقه أو لم يسقطه؟! فإن قلتم: يسقط فباطل؛ لأنه لم يرض بإسقاطه، وإن قلتم: لا يسقط؛ فكيف تسقطونه إذا اقتص منه مع عدم العلم برضا المقتول بإسقاط حقه؟!) فألزموهم إلزاماً عقلياً.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (وهذه حجج كما ترى في القوة لا تندفع إلا بأقوى منها أو بأمثالها، فالصواب -والله أعلم- أن يقال: إذا تاب القاتل من حق الله وسلم نفسه طوعاً إلى الوارث ليستوفي منه حق موروثه سقط عنه الحقان)، فيسقط عنه حق الله وحق الوارث، (وبقي حق المقتول لا يضيعه الله، ويجعل من تمام مغفرته للقاتل تعويض المقتول؛ لأن مصيبته لم تنجبر بقتل قاتله، والتوبة النصوح تهدم ما قبلها، فيعوض هذا عن مظلمته ولا يعاقب هذا لكمال توبته) وهذا من كمال حكمة الله تعالى، حيث يعوض هذا عن مظلمته ولا يعاقب هذا لكمال توبته.
قال رحمه الله تعالى: (وصار كالكافر المحارب لله ورسوله إذا قتل مسلماً في الصف ثم أسلم وحسن إسلامه، فإن الله سبحانه يعوض هذا الشهيد المقتول من عنده ويغفر للكافر بإسلامه) والإسلام يجب ما قبله، ولا يؤاخذه بقتله ذلك المسلم أيام كفره.
قال: (وعلى هذا إذا سلم نفسه وانقاد فعفا عنه الولي وتاب القاتل توبة نصوحاً؛ فالله تعالى يقبل توبته ويعوض المقتول، فهذا الذي يمكن أن يصل إليه نظر العالم واجتهاده، والحكم بعد ذلك لله: (( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ))[النمل:78])، هذا غاية ما نستطيع أن نقوله في هذه المسألة، ولا شك في أن ما قاله رحمه الله هو اللائق بحكمة الله وهو اللائق بعدل الله؛ فإن الله لا يحرم أحداً من حقه في الدنيا أو في الآخرة، كما أن بابه تعالى للتوبة مفتوح لا يمنعه عن أحد، ففي هذا القول الجمع بين تحقيق ما أراده الشرع من مصالح عظيمة في التوبة وقبول توبة التائبين وفتح الباب لهم، وتحقيق ما وعد الله تعالى به وأوجبه على نفسه من أنه لا بد من أن يجازي وأن يرحم وأن يتفضل، وأنَّه لا يرضى بأن يظلم سبحانه أحداً، ولا بأن يظلم أحداً أحد من المخلوقين مثله، وهذا من فضل الله تعالى على عباده.
وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام في أحكام التوبة، وهي المانع الأول والأكبر من موانع إنفاذ الوعيد، وبعد ذلك سيكون الكلام في مانع آخر قريب منها ومتداخل معها، وهو مانع الاستغفار.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.